‫الرئيسية‬ نسمات الحرية اللّعبي في الفنّ : التّقمّص لأسطرة الذّات|بقلم:ياسمين شطورو

اللّعبي في الفنّ : التّقمّص لأسطرة الذّات|بقلم:ياسمين شطورو

في بعض الأحيان تكُونُ الصّورة ذريعة للتّعبير عن الخيال وتمثّلات الذّات، وفي أحيان أخرى تقومُ بجمع الواقع بنقيضه. ويمكنني أن أحدّد هنا في إطار الحديث عن الصّورة وتمثّلاتها، الصّورة الفوتوغرافيّة في علاقتها بتقنية التّحوير الرّقمي مع تجربة لعبة التّقمّص الّتي هي محور البحث.

هذا ما يجعلنا نتساءلُ عن طبيعة هذه العلاقة ومدى ارتباطها بالفنّ، وعن رهانات فكرة الخلط بين كلاهما لتشكيل أو تأسيس لعبة فنيّة جديدة تُؤثّر وتتأثر.

أمّا في علاقتها باللّعبي في الفن المُعاصر، حاولتُ خلق شكل جديد للصّورة الفوتوغرافيّة عن طريق هذه اللعبة الّتي كانت صورتي الشّخصيّة مُتصدّرةً بها طيلة رحلة البحث، مع تقنية الفوتومنتاج، لنتساءل بذلك عن مدى تفاعل الفضاء الرّقمي مع مشروع التّقمّص أو التّنكّر وعمليّة الإنتاج الفوتورقميّة في علاقتهم بالذّاكرة الشّخصيّة. إذ أعتقدُ في هذا الإطار أنّ التّصوير إن كان مُباشرًا أو مُركّبًا، فإنّ فضاء الصّورة الفنّية يتراوحُ في الظّهور بين الخيال والواقع، وبين المكان واللاّمكان، وبين البنية والإطار التّشكيلي  وهذا كان الهدف الرّئيسي وراء تجربتي، ليهبّ الإبداع بهذا التّمشّي تصوّرًا ذاتيًّا يجانبُ الموضوعيّة في علاقته بتمثّل الذّات في الفنّ عامّةً ليخصّ بقيمته الفنيّة الشّاملة شُموليّة الإبداع والتّفرّد.

      إذ لعلّ الانفتاح والانسياق في خوض التّجربة يُوضّح لنا ما ذكرناهُ في السّطور السّابقة، ويفتح لنا   المجال للتّعرّف عن القضايا المطروحة في هذه التّجربة التّشكيليّة والرّهانات الّتي تُترجمُ ذلك. إذن :     

  • ما هي علاقة اللّعبي في الفنّ المعاصر بجدليّة التّقمّص والذّاتي ؟
  • كيف كتبت الذّات نفسها فنًّا في هذه التّجربة ؟

اللّعبي هو جزء من لعبة، مرتبط بها ارتباطًا وثيقًا، إذ يُعتبرُ شيئًا لهُ خصائص مُعيّنة فيها، حيثُ يكونُ أسلوب المُتعة عُمومًا مرحًا، كما يُعتبرُ نشاطا يتمّ إنفاقه في اللّعبة، نشاطا يكونُ دافعهُ استيعاب الذّات.

يقول كانط في هذا الإطار :” نهائية لا نهاية لها، وهو انجاز لا يميلُ إلى تحقيق شيء سوى الذّات …” إذ يُناسب هذا التّعريف التّمييز الذي وضعتهُ جانيت بين نشاط واقعي أو عملي ونشاط لعوب أو نشاط لعب.[1]

كانت الانطلاقة من الذاكرة الشّخصيّة و ذاتي، فقد قادني البحث عن ذاتي وفي نفس الوقت الكسر مع فكرة الشّخصيّة والهويّة الواحدة لخوض تجربة لعبة التّنكّر التي تعتمدُ بالأساس على التّقمّص بالاستعانة بفنّ الماكياج وتنسيق الملابس المُشبّهة بملابس الشخصيات الحقيقية التي اعتمدتها في مشروع البحث، تقمّصتُ في شخصيّة جدّتي، جدّي، مرورًا بفترة الطّفولة الشخصيّة المُتحرّكة سنوويت (بيضاء الثّلج)، الشّخصيّة الفُكاهيّة شارلي شابلن وُصولاً إلى شخصيّتين من تاريخ الفنّ الموناليزا وشخصية الفنّانة فريدا كاهلو بما أنّني طالبة في مجال الفنون التّشكيلية.

74614136_445014616168445_1017298175544786944_n.png

لقد أدلجت الثقافة المُعاصرة الذّات وصنّفتها، فيما الفنّ هو بالأساس إجلاء لهذه الذّاتيّة الكامنة فينا على نحو خام، بل ولقد ارتبط مفهوم الحداثة بمفهوم هذه الذّات التي كانت منسيّة ومُبعدة. فكتابة الذّات فنّا تقتضي قراءتها من قبل ذوات أخر، ونحنُ إزاء هذه الذّات التي لا يمكن أن تتحدّد إلاّ بالآخر، لا يمكن أن نفهم الذات إلاّ من خلال الغيريّة، أي لا بدّ من وجود الآخر للحديث عن الذّات. فلو أخذنا كلمة (تقمّص) وكلمة (ذاتي) أرى أنّ العلاقة التي تجمع كلا المصطلحين هي علاقة تكامل للفكرة المعتمدة في مشروعي لأنّ مصطلح التّقمّص لا يتحقّق إلاّ بوجود الأنا أو الذات التي تُميّزُ كلّ ذات عن أخرى، فكأنّي أتلاعبُ بذاتي و أجرّدها من نفسها مُتقمّصة ذات أخرى غريبةً عنها ثمّ ذات أخرى و هكذا دواليك في إطار لعبة واحدة (التّنكّر). إذ يفسّر ( تشارلز إدوارد جاوس  Charles Edward gauss ) أنّ التّقمّص يفترضُ ذوبان الذّات و الموضوع و اتّحادهما معاً، وفي تفسير مُماثل يزعمُ ( رودولف أ.ماكريل Rudolf A. Makreel   ( “أنّ التّقمّص يسمحُ للذات أن تتطابق بديهياً مع الآخر”[2]

كما يقول سغموند فرويد في كتابه ” التّقمّص في النّظريّة الفرويديّة l’identification dans la théorie freudienne أنّ التّقمّص يحدث بواسطة تأثّر الأنا بأنا آخر خاص فيحدث نوع من الانتقال للصفات والمميزات الشخصية من فرد إلى آخر، كنوع من التقليد لكن بصفة أقوى من التقليد بحيث يدوم ويرسخ في الشخصية وبه يتبنى الفرد توجهات ومميزات شخصية جديدة.[3]

إنّ هذا التّلاعب بين ما هو تقليد وما هو ذات يفصحُ المجال على الانفتاح على الآخر وقبول الآخر وبالتّالي الانسياق نحو التجريب والتّجديد في الفن المعاصر في تجربة تشكيلية قائمة الذات. وهذه الأخيرة تُبنى وتتأسّس بالفعل الإبداعي في حدّ ذاته وليس سابقة عليه.

فهل تقليدنا للآخر هو نوع من الذّوبان أم نوع من المُنافسة ومُحاولة اللّحاق بركب القطار في آخر لحظة ؟

من خلال تجربتي البسيطة، أريدُ القول أنّ ذاتي كانت حاضرة في كلّ الشّخصيّات التي قمتُ بتقمّصها بصفة مباشرة وغير مباشرة أيضا، فبالرغم التقليد لم ألغي ذاتي كلياّ.

وأقصد هنا بالطريقة الغير المباشرة هي طريقة العرض، فلا شكّ أنّ سعي التشكيلي و الفنان عامّة إلى إيجاد بصمة خاصّة به والاهتداء إلى أسلوب مُتفرّد يحمل إمضاءه الشّخصي ينبعُ من رغبة الذّات في أن تكون مختلفة ومنفردة ومُغايرة يتحوّل على إثرها الموضوع الشّخصي إلى موضوع قابل لعديد التّأويلات، فالذاتي في العمل الفني المعاصر لم يعد يكمن في الموضوع الفني وإنّما في الأسلوب وطرق التعبير التي أصبحت خاصّة بالفنّان، إذ أصبحنا نتحدّث عن أسلوب شخصي وأصبح العمل الفني لا يكمن في الموضوع وإنّما في مدى الإبداع في الأسلوب الذي به يتمّ التعبير عن الموضوع… أسلوب يدفع إلى التّفكير والدخول في حوار مع العمل فيكون هناك حوار فكري ذاتي، وهذا برأيي ما تفطّن إليه الفنّان المعاصر فرغم اعتماده على أشياء من الواقع واتّخاذه موضوعًا لهُ، يُحاولُ أن يُنظّم معطيات واقعه وقصصه وحكاياته إلى واقع افتراضي جديد أكثر إثارة. وهذا ما حاولتُ السّعي إليه من خلال تجربتي.

80287835_2521520638135995_152886529201537024_n.png

كما قلتُ منذ قليل أنّ الفنان التشكيلي يبحثُ في طريقة المُعالجة الفنيّة لموضوعه الذي سوف يُشاركهُ مع الجمهور المُتلقي، وهنا بتدخّل تقنية التحوير الرّقمي كان للخيال حضور طاغي إلى جانب تقمّصي لهذه الشّخصيّات التي اخترتها.

 إذ يمكنني أن أسمّي هذا الانزياح عن الأمكنة الحقيقيّة للشخصيات غربة، الغربة عن المكان الأوّل و الحقيقي، إذ تتخلّى الفوتوغرافيا عن دورها التّوثيقي الميكانيكي للمكان لتُعطي الدّور الآن للتّقنية الحديثة (الرّقمي) لتَنسُجَ صورة أخرى مبتكرة تُعبّر عن الانفصام و التّناقض بين الهويّة الواحدة وتعدّد الهويّات، وهو ما يُثيرُ الإحساس بالضّياع و من غربة ووحشة المكان الجديد، وُلدتْ حاجتي إلى إيجاد و خلق مكان  مُتخيّل يربطُ هذه الشّخوص التّائهة بفضائها الحالي خارج قوانين المكان الأصلي. إذ أنّي تعمّدْتُ فصل الشّخوص عن مكانها الأصلّي وهوما يُخفّف إحساس الحنين فيَّ لفترة الطّفولة إلى اليوم وبالتّالي يُخفّفُ الإحساس بتجربة الذّوبان في الزّمن للدّخول في مُغامرة تشكيليّة مُعاصرة، وحديثي عن الزّمن هنا ليس اعتباطًا أو من باب الصّدفة، بل لأنّ التّجربة قائمة حول ذاكرتي الشّخصيّة و لا يمكننا الحديث عن هذه الأخيرة إلاّ بالرّجوع إلى الماضي الذي يُعبّرُ عنهُ الزّمن.  

 من جهة أخرى لا أستطيع الحديث عن المكان (الذي هو افتراضي) دون الخوض في حيثيّات الزّمان إذ خدم كلاهما الآخر، فلم يتّسمُ هذا الزّمن بالغُموض لأنّهُ المحور الرّئيسي و الأساسي فيها، إذ نجدُهُ مُعلَنًا و واضحًا من خلال توظيفي آلات قيس الزّمن، فهذا الأخير هو الّذي يطغى على كلّ شيء، فكلّ شيء على هذه الأرض مصيرُهُ الفناء مهما بلغ حجمُهُ و قيمتُهُ.

و لعلّ السّؤال الذي يُراودُ بعضكم هو لماذا لم تضع هذه الشّخوص في أماكن من الواقع مثلما فعلت في شخصيّتيْ الجدّ والجدّة (مسرحة على أرض الواقع)، أي لماذا هذا الانزياح بتدخّل الرّقمي ؟

لقد دارت مثل هذه الأسئلة في رأسي طيلة رحلة هذه التّجربة، ولا أنكُرُ أنّني وجدتُ صعوبةً في الإجابة عنها، ففعلاً لماذا لم تكن هذه الشّخوص التي تُمثّلني مُتواجدة في أماكن واقعيّة وفي كلتا الحالتين يتحقّقُ الانزياح لأنّني طبعًا سأجدُ صعوبة أكبر في البحث عن أمكنة مُشابهة للأماكن الحقيقيّة للشّخصيّات؟

اهتمّ الفلاسفة القدماء بالخيال بوصفه آليّة لإعادة تمثّل الصّور المكتسبة وليس بوصفه مجالا للخلق والإبداع. أمّا الفلاسفة المحدثون الذين واكبوا عصر الاختراعات المتلاحقة في العلوم والتكنولوجيا، كما في الفنون التّشكيليّة التي ابتعدت عن أشكال المُحاكاة المهاريّة الاستعراضيّة خاصّة بعد اختراع الآلة الفوتوغرافيّة وتقنياتها المُتطوّرة، فإنّهم اهتمّوا أكثر بالخيال المبدع في الفنّ والأدب والعلم.

لذلك فنحنُ لا ندين المخيّلة كما فعل “بليز باسكال” عندما اعتبرها سيدة المغالطة والأخطاء، كما لا يُمكن إنكار دور الخيال المُستعيد الذي يربطنا بالماضي فنُحقّق عبرهُ استمراريّتنا في التاريخ. وهو تقريبًا ما تقوم به الصورة الفوتوغرافيّة فوُجودها الشبهي لا يُهمّش حضورها أو يجعلها خالية من المعنى باعتبار موقعها الضّعيف مقارنة بالوُجود الحقيقي والواقعي للأشياء. لكن وفي الوقت نفسه لا يمكن أن ننفي أنّ الخيال الخلاّق الذي مجّدهُ الفلاسفة المحدثون هو الأكثر اتّزانًا، فهو يصهر ويُصقّل كلّ ما بداخلنا لينطلق في البناء والخلق، فيكونُ مزيجًا مبدعًا بين الميول والمشاعر الدّفينة واللاوعي المكبوت والثقافة والعقل والحدس والإلهام. يستطيع المرء عبر الخيال الخلاّق أن يُحقّق في اللاواقع ما لم يستطع تحقيقه في الواقع. وقد ربط كانط قوّة الخيال الخلاّق بالأفكار الجماليّة على غرار الإلهام والإبداع الذي لا يمكن أن ينحصر في نسخ الوقائع الماديّة أو إعادة إنتاج المعطى الحسّي بل هو بناء للموضوعات وتركيب للأشكال والبنى بطريقة لا تخلو من اللّعب والحريّة وهنا تكمن العبقريّة في الفنّ.       

لم أكتفي بذلك، و جعلتُ من الواقع شاهدًا على تجربتي حيثُ أسعى هنا إلى إحضار الصورة الذهنيّة التي صمّمتها في مُخيّلتي و أقدمها إلى المُتلقّي عن طريق برمجيّة التّحوير الرّقمي، التي لاحظتُ أنّها لغة كونيّة تواصليّة تربطني بالمُشاهد فهذه الصّور تحوّلت إلى مادّة أنجزُ بها تنصيباتي الافتراضية داخل عالم التّقنيّات الحديثة. حيثُ أدخلتُ صُور حقيقيّة من الواقع لأنّني أصبحتُ مهووسة بهذه اللّعبة، و كأنّ الشخصيّات التي اعتمدتها في هذه التجربة سلبت منّي هويّتي الشّخصيّة لدرجة أنّي كلّما رأيتُ نفسي في صورة تجمعني بأصدقائي أو أناًسًا آخرين أتخيّلُ نفسي مثلاً في شخصيّة الموناليزا أو فريدا كاهلو  …

81284664_2531405323783230_3315927976163409920_n.jpg

أخيرًا و ليس آخرًا أردتُ القول أنّ في هذه التّجربة أردتُ تحرير الصورة الفوتوغرافيّة من قيود المنطق والإخبار لتلتحق بعالم الفانتازيا الذي يتمرّد على الواقع بخلق صور فنيّة تشكيليّة غير منتظرة ومُتناقضة مع المنطق المُعتاد، وكأنّها تُخفّف من عبء الواقعيّة، ذلك بإعطاء التجربة بعد عجائبي مربك للبداهة.

ولا أقصد الفانتازيا هنا الهذيان بفكرة مفارقة للمعيشي، بل هي نمط فني يجنحُ للحريّة من وراء النّظام ويبحث بالخيال في ثنايا الواقع، فهذا النّزوع الفانتازي هو مُحاولة للتّمرّد على الواقع المُسلّط على الذّات وذلك عبر تفكيكه وإعادة إنتاجه. وقد تكون الفوتوغرافيا والتقنيات الحديثة اليوم وسائل مرنة مُتّسعة الإمكانات للمُراوحة بين القطبين وخوض غمار التجربة.    هذا التّفاعل والتّحاور الذي حصل بين الصورة الفوتوغرافيّة والتقنية مع لعبة التّقمّص أسّس إلى ولادة ذات جديدة مُتعدّدة الهويّات، وكأنني أثبتُ ذاتي وألغيها في نفس الوقت، فهذه المُفارقة هدفها الكسر مع


[1] “On a pu appliquer au jeu la définition que Kant a donnée de l’art : « Une finalité sans fin », une réalisation qui ne tend à rien réaliser que soi (…). Avec cette définition concorde la distinction que Janet a faite entre l’activité réaliste ou pratique et l’activité ludique ou activité de jeu”.  H.wallon l’évolution psychol.de l’enfant ;paris  Armand colin ; 1968 [1941] ; p 59

[2] مجلّة مسرحنا , العدد 549 , صدر بتاريخ 5 مارس 2018 , ترجمة أحمد عبد الفتّاح , عنوان المقال ” التّقمّص و المسرح “

[3] مقال بقلم ” روزاروز ” بعنوان ” التقمّص في علم النفس : الآليّة ، المفهوم ، التّظاهرات “

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية + ستة =

‫شاهد أيضًا‬

حوار مع مدربة الحياة التونسيّة أ. ريم الخميري

الكوتش التونسية ريم خميري : الأمل أكسيجين الحياة معرفة الذات طريق للسعادة الحقيقية الإنسان…