ما تَبقى من أسناني/بقلم : أميرة الوصيف
في أورشِليم دار طبق الحلوى من زقاقِ إلى زقاق , ومن شارعِ إلى شارع , ومن ناصيةِ إلى ناصية حتى استِقر كعادته في أحضانِ شجرةِ التين , ودَفنت أنا و أصدقائي أبصارنا فيه حتى لامست اللِذة أعماقنا , وصِرنا أشد التصاقاً من البارحة , ومن أول البارحة , ومن اليوم الذي سَبق كل بارحة قضيناها في جوارِ طبق الحلوى الطائر .
لو تَعلمون كيف كان سُكَره يَنغمس في الروح ! فقط عند رؤيته يستوي جالساً كجني مُزَركِش الألوان مُحَبب إلى العين رؤيته , كانت حلواه تُمسِك بتلابيب دواخلنا من دون أن نأكله ! آه لو تَعلمون كِم مرة أقسمتُ لأمي , ولأم حِنا , ولأم ابراهام أن الطبق يدور ولم تصدقنا أمهاتنا !
قالت أمي : مجنون ورِب الكعبة , ورِكضت خالتي مريم خلف حِنا بهراوة بلاستيكية , واكتِفت أم ابراهام بقرص أذنيه في عَتبِ ولَوم .
مساء الخميس كان القمر يتراقص فوق بيوتنا , وبين رَقصة والأخرى كان يقذف نوافذنا بخيوطِ ضوء فضية , هرعت إلى نافذة غرفتي ووجدت بصمات أصابع القمر على الزجاج , تلك اللعبة التي نتبادلها مع القمر كانت عادتنا , وال “نا ” هنا تعود عليّ بصحبةِ حَنا وابراهام , تعاهد ثلاثتنا على خَربشة الزجاج بأظافرنا كلما صَفر مصباح قمرنا الساهِر مُعلناً بدء الشوط الأول من لعبة الغميضة مع الأعلى , كُنا نظن أن أظافر الصغار الشَقية التى تخربش الزجاج , حَتماً سَتُقَشره , وستقبض راحات أيدينا على النورِ , وسنصافح قمرنا هكذا يداَ بيَد , وإصبعاً بإصبَع , فهل كُنا ثلاثة مجانين ؟!
كان هذا وَصفاً أزلياً مُراً كُلما مشينا التصق بنا .
في صباح الجمعة , دَقت أمي عظامي بالعصا عندما شَهقت كما المجاذيب , وتَلَعثم لساني , وقلت لها وأنا لا أمِل من تكرار ما ألفظه في لَهفة مجنونة : طبق .. طبق حلوى .. يَطير .. يَطير !
لكزتني في ذراعي النَحيل , وصرخت في وجهي بعباراتِ كثيرة وغير مُنَظمة , لم تحتفظ أذناي سوى بتلك الكلمات العابرة : مجنون .. أخبَل .. أسوأ وَلد في العالم !
عندما نَعتتني أمي بأسوأ وَلد في العالم , لم أكن أعرف هل كان عليّ أن أغضب أم أن أذرف الدمعات ماسحاً وجهي المُبَلل بعباءتها كي تضعف أو تصدقني عندها وقبل أن أعود اليها وأُمَرِن لساني على تأدية القَسَم , نَما إلى أذني عويل حَنا , لم يمتص سمعي شيئاً , ولكن كل ما دخل حواسي كان بُكاءاً هستيرياً آخره عبارة ” لن أخرج ” والتي كُرِرَت عدة مرات في انفعالِ طفولي غاضب .
في ظهيرة الجمعة , هرولت إلى نافذة غرفتي , وأخذت أترقب العالم من خلف الزجاج , حينها كانت الشمس تَغمز بعينيها البُرتقالية , تضحك , وتضحك حتى كادت حماسة مزاجها الحار أن تشعل كل شىء , أو هكذا بدا ليّ ؛ لأنني كنت أسير غضبي , وجدتي تقول أن الولد الغاضب تَلسعه حرارة أفعاله .
رَميت ببصري إلى حيث بيت حنا , ووجدته قابعاً مُنكسراً أمام نافذته تماماً مثلي , ينظر إليّ بعينين حمراوين ليستا رائقتين كدرتهما دموع الصباح , لم نَنبس ببنت شفه لكن عيوننا تجاذبت أطراف الحديث , عندما أخذت تروح وتجىء بإتجاه بيت ابراهام المُلتصق ببيوتنا , حدقنا في نافذته في آن , ولم نَجده , فصديقنا مُعاقَب من الأمس , ولن نره اليوم , وغداً “سبت النور” , وسينشغل في طقوسه الدينية مع أسرتة , وبعدها سيعاقب تماماً كما قالت له أمه , وربما تصرخ أمه في وجهه كما أم حنا , وربما تَلكزه في كوعه , وتنعته بالأخبل كما فعلت أمي , ربما !
في ليلة الخميس , بينما كنت أُمَرر كعادتي كل ليلة الرمال البيضاء من بين أصابع قدمي , وعندما كان حنا يضع ليّ خُنفِسة سوداء في حِفنة الرمال التي أنوى تمريرها , وها أنا أراه من طرفِ عيني وهو يضعها , وأرسم ابتسامتي الصفراء , وكأني لا أعلم , ويَلمحني ابراهام فيخطفها من حنا دون أن يَشعر ليضعها في حِفنة الرمال خاصته , وهكذا نلعب ونضحك من الأعماق , حتى أن معدتنا تؤلمنا كل ليلة من شدة الضحك ,ونَجلب لتونا ضجة طفولية في الشارع , وتصل أصوات ضحكاتنا إلى تلك المرحلة التي تبدو فيها الضحكات كبَحة كلاب مولودة ومذعورة .
قبيل أن تسقط عباءة الليل على رؤوسنا , لَمحنا طبق يدور , لم نصدق أعيننا , ودعكنا جفوننا بأيدينا في عجلة و انفعال ثم جددنا الفعل وإذا بالنتيجة واحدة , كان الطبق يَدور من زقاقِ إلى زقاق , ومن شارعِ إلى شارع , أخذ يَهبط ويرتفع في مهارةِ رواد الفضاء , كان بمثابة حلم أو أسطورة إلا انه في نهاية الطيران استقر في قلب شجرة التين القديمة .
اهتزت أكتافنا , وارتجفنا , ولم يكن الجو بارداً , اقترب ابراهام من شجرة التين , وحاول هزها حتى يسقط طبق الحلوى , إلا انه لم يسقط , واقتربت أنا وحنا وجَبنا عن تكرار نفس الشىء , واتفق ثلاثتنا على العودة إلى الديار , وإخبار أهالينا بأمرِ الطبق الطائر , وأنتم تعلمون الباقي ..
بعد انقضاء سَبت النور , ركضت إلى حيث بيت ابراهام , وناديته سِراً , فأتاني وهو يَرتعد أن تلمحه أمه لأنه لا يزال مُعاقباً , سألته إذا كان سيأتي معي إلى شجرة التين القديمة حيث طبق الحلوى الطائر , فأجابتني دقات قلبه بالرغبة واللهفة , وأجابني بريق عينيه بالحماسة إلا انه بعد مضي عشرة دقائق , كانت خالتي أم ابراهام أمامنا , وطلبت مني العودة إلى أمي , وقرصت ابراهام في أذنيه ثانيةَ , احمر وجهه وبكى ثم صفقت الباب خلفها .
أخذتني خطواتي إلى حيث طبق الحلوى , وهناك وجدت حنا واقفاً ذاهلاً أمام شجرة التين ؛ مُحرِكاً يديه كمَن هو تحت تأثير التنويم المغناطيسي , وأخذ يتأرجح ذات اليمين , وذات الشمال , كان يدفن مُقلتيه في الطبق , وأخذ الطبق يدور أسفل الشجرة وفوقها , على الأغصان وفوق الثمار , هناك على الأرصفة , وفوق خيوط السماء الرمادية التي كشطتها أقدام الملائكة , كان يتأرجح بخفة قوة خارقة , وكانت أبداننا وأرواحنا تتأرجح معه في انسيابية مُحَببة إلينا .
قفزت إلى ذهنينا فكرة مُوَحدة , والتي قلناها لبعضنا بالأعين , وكان مفادها أن يحمل أحدنا الآخر , ليحصل هذا الآخر على طبق الحلوى المُسَتقِر في قلب الشجرة , ونقبض عليه بين أيدينا , وحينها سنثبت لأورشَليم وأهلها بأنا لسنا مجانين , وسأثبت أنا شخصياً لأمي بأنني لست أسوأ ولد في العالم .
حملني حنا , وصعدت فوق كتفيه وشعرت بأنه ثمة إبَر وأشواك أسفل قدميّ , وحينها طلبت منه أن يُكثِر من تناول الطعام , وتأفف هو حينها وصرخ من الأسفل قائلاً : لا وقت للنكات .
رفعت رأسي إلى أعلى , ورأيت الطبق الطائر , وحينما حاولت الإمساك به , صرخ حنا , نظرت إليه , فوجدته يتهاوى على الأرض , فهويت أرضاً أنا الآخر , والتَف حولنا الجيران لأن صرخاتنا كانت مدوية تُجَلجل في أرجاء الشارع , حملنا الناس إلى بيوتنا , وعوقب حنا بعدم الخروج أبداً , وعوقبت أنا بالخِصام و الصراخ في وجهي , عندها انتشرت الأقاويل في البلدة والتي قالت أن ابراهام و حنا كاذبان يَدعون أشياءاً لم يروها , لذا عاقبهم الله بأن كُسِرَت قَدم حَنا , وأن أحرقت احدى شمعات السَبت يَد ابراهام اليُمنى , وكنت أنا في منأى عن هذة الأقاويل والتُهَم لسببِ واحد وهو أنني لم أتأذى بشكلِ مَلموس كصديقي المُقَربين .
شعرت وكأن خنجر في قلبي , وبأن روحي مريضة , لاحظت أمي نحولي وشحوبي وعزوفي عن الطعام , وكلما نطقت حرفاً عن حَنا , وابراهام أو عن شجرة التين القديمة و طبقها الطائر , عنفتني أمي ونعتتني بالمخبول , وحذرتني من أن يقول الناس عنيّ كما يقولون عن صديقيّ , بل أخافتني من أن يغضب الله عليّ , وتنكسر ساقيّ أو يُقطَع لساني الذي يَتفوه بالكذباتِ الكبيرة .
ذات نهار, أفقت على أصوات كثيرة لأهل البلدة , يشتمون صديقيّ ويصفونهم بالكاذبين , أحسست ناراً بداخليّ , وفوراً قررت أن أفعل الآتي , للمرة الثانية أخذتني خطواتي إلى شجرة التين , حاولت أن أتسلقها وحديّ , سقطت عشرات المرات , وجُرِحَت ساقي اليُمنى , وأهدتني الأرض خدشاً في ذراعي أخذ يُقَطِر دماً , إلا انني لم أيأس , تسلقت شجرة التين , واقتربت كثيراً من طبق الحلوى , قبضت عليه , وأمسكته بين أصابعي , ونظرت إليه , فوجدت حَلواه عجيبة مُدهشة تبدو كأزرار ذهبية وجواهر ولآلىء إلا إنها حلوى ! , وعندما حاولت أخذ الطبق معي إلى المنزل , تختفى الحلوى كلها مرةَ واحدة !
ويستحيل الطبق بقدرةِ قادر طبقاً خاوياً , وكلما وضعته في قلب الشجرة , عادت إليه حلواه كما كانت بكامل غرائبيتها , أما إذا حاولت اصطحابه برفقتي اختفت الحلوى و كأنها لم تَكُن !
استمر الحال هكذا ساعات طويلة , لم أكن أعرف ماذا أفعل ؟ في تلك الحالة لن يُصدقني الناس , ولن أنجح في اثبات براءة رفيقيّ
شعرت بضيق في صدري , وحيرة في عقلي , تألمت وبَكيت , وأصبح لنَحيبي صوت كصوت أمي عند ولادتها لأخي الأصغر , وصلت لأقصى درجات اليأس , وعندما رفعت رأسي إلى الطبق , وجدت فيه ورقةَ صغيرة , بها رسالة تقول :
قبل أن تأكلني .. اعطيني أسنانك !
فتحت عيني في دهشة بالغة , لم أفهم ماذا تعني تلك الرسالة ؟
وكيف يعطي أحدهم أسنانه لطبق حتى وإن كان طبق طائر ؟!
بعد أن قرأت الرسالة , وطبقتها , ظهرت الحلوى وظهر معها ورقة صغيرة تقول :
عندما تأكلني .. تسقط أسنانك , وعندما تسقط أسنانك .. تراني !
فوراً سارعت إلى قضم أول قطعة من الحلوى , وعندها سقطت سنتي الأولى في الطبق من تلقاء نفسها , شعرت بالهلع والدهشة , لم أشعر بأي ألم , لكنها سَقطت ولا أعلم متى ستعود ؟
عندئذ فهمت اللعبة , تلك الشبيهة بغُميضة القمر إلا انها لعبة جدية , فإذا أردت أن تظهر ليّ الحلوى , ينبغي أن أخسر عدداً من أسناني , لأنه بعدد الأسنان المُتساقطة , ستكون عدد الحلوى الظاهرة في الطبق , والتي لن تصبح مخفية لأى أحد , وحينها فقط سأستطيع حمل الطبق الطائر المملوء بالحلوى العجائبية , والعودة به إلى أورشَليم كي يراه الناس وليتبرأ صديقيّ الحميمين
وبدأت اللعبة بسِنَة واحدة , وانتهت بالكثير والكثير من أسناني ,وعدت إلى شارعنا وأنا أقبض على طبق الحلوى الطائر , والتف حولي الناس ليشهدوا على براءة ابراهام و حنا ولأُتَرجم حُبي لهما بما تَبقى من أسناني .
في أورشِليم دار طبق الحلوى من زقاقِ إلى زقاق , ومن شارعِ إلى شارع , ومن ناصيةِ إلى ناصية حتى استِقر كعادته في أحضانِ شجرةِ التين , ودَفنت أنا و أصدقائي أبصارنا فيه حتى لامست اللِذة أعماقنا , وصِرنا أشد التصاقاً من البارحة , ومن أول البارحة , ومن اليوم الذي سَبق كل بارحة قضيناها في جوارِ طبق الحلوى الطائر .
لو تَعلمون كيف كان سُكَره يَنغمس في الروح ! فقط عند رؤيته يستوي جالساً كجني مُزَركِش الألوان مُحَبب إلى العين رؤيته , كانت حلواه تُمسِك بتلابيب دواخلنا من دون أن نأكله ! آه لو تَعلمون كِم مرة أقسمتُ لأمي , ولأم حِنا , ولأم ابراهام أن الطبق يدور ولم تصدقنا أمهاتنا !
قالت أمي : مجنون ورِب الكعبة , ورِكضت خالتي مريم خلف حِنا بهراوة بلاستيكية , واكتِفت أم ابراهام بقرص أذنيه في عَتبِ ولَوم .
مساء الخميس كان القمر يتراقص فوق بيوتنا , وبين رَقصة والأخرى كان يقذف نوافذنا بخيوطِ ضوء فضية , هرعت إلى نافذة غرفتي ووجدت بصمات أصابع القمر على الزجاج , تلك اللعبة التي نتبادلها مع القمر كانت عادتنا , وال “نا ” هنا تعود عليّ بصحبةِ حَنا وابراهام , تعاهد ثلاثتنا على خَربشة الزجاج بأظافرنا كلما صَفر مصباح قمرنا الساهِر مُعلناً بدء الشوط الأول من لعبة الغميضة مع الأعلى , كُنا نظن أن أظافر الصغار الشَقية التى تخربش الزجاج , حَتماً سَتُقَشره , وستقبض راحات أيدينا على النورِ , وسنصافح قمرنا هكذا يداَ بيَد , وإصبعاً بإصبَع , فهل كُنا ثلاثة مجانين ؟!
كان هذا وَصفاً أزلياً مُراً كُلما مشينا التصق بنا .
في صباح الجمعة , دَقت أمي عظامي بالعصا عندما شَهقت كما المجاذيب , وتَلَعثم لساني , وقلت لها وأنا لا أمِل من تكرار ما ألفظه في لَهفة مجنونة : طبق .. طبق حلوى .. يَطير .. يَطير !
لكزتني في ذراعي النَحيل , وصرخت في وجهي بعباراتِ كثيرة وغير مُنَظمة , لم تحتفظ أذناي سوى بتلك الكلمات العابرة : مجنون .. أخبَل .. أسوأ وَلد في العالم !
عندما نَعتتني أمي بأسوأ وَلد في العالم , لم أكن أعرف هل كان عليّ أن أغضب أم أن أذرف الدمعات ماسحاً وجهي المُبَلل بعباءتها كي تضعف أو تصدقني عندها وقبل أن أعود اليها وأُمَرِن لساني على تأدية القَسَم , نَما إلى أذني عويل حَنا , لم يمتص سمعي شيئاً , ولكن كل ما دخل حواسي كان بُكاءاً هستيرياً آخره عبارة ” لن أخرج ” والتي كُرِرَت عدة مرات في انفعالِ طفولي غاضب .
في ظهيرة الجمعة , هرولت إلى نافذة غرفتي , وأخذت أترقب العالم من خلف الزجاج , حينها كانت الشمس تَغمز بعينيها البُرتقالية , تضحك , وتضحك حتى كادت حماسة مزاجها الحار أن تشعل كل شىء , أو هكذا بدا ليّ ؛ لأنني كنت أسير غضبي , وجدتي تقول أن الولد الغاضب تَلسعه حرارة أفعاله .
رَميت ببصري إلى حيث بيت حنا , ووجدته قابعاً مُنكسراً أمام نافذته تماماً مثلي , ينظر إليّ بعينين حمراوين ليستا رائقتين كدرتهما دموع الصباح , لم نَنبس ببنت شفه لكن عيوننا تجاذبت أطراف الحديث , عندما أخذت تروح وتجىء بإتجاه بيت ابراهام المُلتصق ببيوتنا , حدقنا في نافذته في آن , ولم نَجده , فصديقنا مُعاقَب من الأمس , ولن نره اليوم , وغداً “سبت النور” , وسينشغل في طقوسه الدينية مع أسرتة , وبعدها سيعاقب تماماً كما قالت له أمه , وربما تصرخ أمه في وجهه كما أم حنا , وربما تَلكزه في كوعه , وتنعته بالأخبل كما فعلت أمي , ربما !
في ليلة الخميس , بينما كنت أُمَرر كعادتي كل ليلة الرمال البيضاء من بين أصابع قدمي , وعندما كان حنا يضع ليّ خُنفِسة سوداء في حِفنة الرمال التي أنوى تمريرها , وها أنا أراه من طرفِ عيني وهو يضعها , وأرسم ابتسامتي الصفراء , وكأني لا أعلم , ويَلمحني ابراهام فيخطفها من حنا دون أن يَشعر ليضعها في حِفنة الرمال خاصته , وهكذا نلعب ونضحك من الأعماق , حتى أن معدتنا تؤلمنا كل ليلة من شدة الضحك ,ونَجلب لتونا ضجة طفولية في الشارع , وتصل أصوات ضحكاتنا إلى تلك المرحلة التي تبدو فيها الضحكات كبَحة كلاب مولودة ومذعورة .
قبيل أن تسقط عباءة الليل على رؤوسنا , لَمحنا طبق يدور , لم نصدق أعيننا , ودعكنا جفوننا بأيدينا في عجلة و انفعال ثم جددنا الفعل وإذا بالنتيجة واحدة , كان الطبق يَدور من زقاقِ إلى زقاق , ومن شارعِ إلى شارع , أخذ يَهبط ويرتفع في مهارةِ رواد الفضاء , كان بمثابة حلم أو أسطورة إلا انه في نهاية الطيران استقر في قلب شجرة التين القديمة .
اهتزت أكتافنا , وارتجفنا , ولم يكن الجو بارداً , اقترب ابراهام من شجرة التين , وحاول هزها حتى يسقط طبق الحلوى , إلا انه لم يسقط , واقتربت أنا وحنا وجَبنا عن تكرار نفس الشىء , واتفق ثلاثتنا على العودة إلى الديار , وإخبار أهالينا بأمرِ الطبق الطائر , وأنتم تعلمون الباقي ..
بعد انقضاء سَبت النور , ركضت إلى حيث بيت ابراهام , وناديته سِراً , فأتاني وهو يَرتعد أن تلمحه أمه لأنه لا يزال مُعاقباً , سألته إذا كان سيأتي معي إلى شجرة التين القديمة حيث طبق الحلوى الطائر , فأجابتني دقات قلبه بالرغبة واللهفة , وأجابني بريق عينيه بالحماسة إلا انه بعد مضي عشرة دقائق , كانت خالتي أم ابراهام أمامنا , وطلبت مني العودة إلى أمي , وقرصت ابراهام في أذنيه ثانيةَ , احمر وجهه وبكى ثم صفقت الباب خلفها .
أخذتني خطواتي إلى حيث طبق الحلوى , وهناك وجدت حنا واقفاً ذاهلاً أمام شجرة التين ؛ مُحرِكاً يديه كمَن هو تحت تأثير التنويم المغناطيسي , وأخذ يتأرجح ذات اليمين , وذات الشمال , كان يدفن مُقلتيه في الطبق , وأخذ الطبق يدور أسفل الشجرة وفوقها , على الأغصان وفوق الثمار , هناك على الأرصفة , وفوق خيوط السماء الرمادية التي كشطتها أقدام الملائكة , كان يتأرجح بخفة قوة خارقة , وكانت أبداننا وأرواحنا تتأرجح معه في انسيابية مُحَببة إلينا .
قفزت إلى ذهنينا فكرة مُوَحدة , والتي قلناها لبعضنا بالأعين , وكان مفادها أن يحمل أحدنا الآخر , ليحصل هذا الآخر على طبق الحلوى المُسَتقِر في قلب الشجرة , ونقبض عليه بين أيدينا , وحينها سنثبت لأورشَليم وأهلها بأنا لسنا مجانين , وسأثبت أنا شخصياً لأمي بأنني لست أسوأ ولد في العالم .
حملني حنا , وصعدت فوق كتفيه وشعرت بأنه ثمة إبَر وأشواك أسفل قدميّ , وحينها طلبت منه أن يُكثِر من تناول الطعام , وتأفف هو حينها وصرخ من الأسفل قائلاً : لا وقت للنكات .
رفعت رأسي إلى أعلى , ورأيت الطبق الطائر , وحينما حاولت الإمساك به , صرخ حنا , نظرت إليه , فوجدته يتهاوى على الأرض , فهويت أرضاً أنا الآخر , والتَف حولنا الجيران لأن صرخاتنا كانت مدوية تُجَلجل في أرجاء الشارع , حملنا الناس إلى بيوتنا , وعوقب حنا بعدم الخروج أبداً , وعوقبت أنا بالخِصام و الصراخ في وجهي , عندها انتشرت الأقاويل في البلدة والتي قالت أن ابراهام و حنا كاذبان يَدعون أشياءاً لم يروها , لذا عاقبهم الله بأن كُسِرَت قَدم حَنا , وأن أحرقت احدى شمعات السَبت يَد ابراهام اليُمنى , وكنت أنا في منأى عن هذة الأقاويل والتُهَم لسببِ واحد وهو أنني لم أتأذى بشكلِ مَلموس كصديقي المُقَربين .
شعرت وكأن خنجر في قلبي , وبأن روحي مريضة , لاحظت أمي نحولي وشحوبي وعزوفي عن الطعام , وكلما نطقت حرفاً عن حَنا , وابراهام أو عن شجرة التين القديمة و طبقها الطائر , عنفتني أمي ونعتتني بالمخبول , وحذرتني من أن يقول الناس عنيّ كما يقولون عن صديقيّ , بل أخافتني من أن يغضب الله عليّ , وتنكسر ساقيّ أو يُقطَع لساني الذي يَتفوه بالكذباتِ الكبيرة .
ذات نهار, أفقت على أصوات كثيرة لأهل البلدة , يشتمون صديقيّ ويصفونهم بالكاذبين , أحسست ناراً بداخليّ , وفوراً قررت أن أفعل الآتي , للمرة الثانية أخذتني خطواتي إلى شجرة التين , حاولت أن أتسلقها وحديّ , سقطت عشرات المرات , وجُرِحَت ساقي اليُمنى , وأهدتني الأرض خدشاً في ذراعي أخذ يُقَطِر دماً , إلا انني لم أيأس , تسلقت شجرة التين , واقتربت كثيراً من طبق الحلوى , قبضت عليه , وأمسكته بين أصابعي , ونظرت إليه , فوجدت حَلواه عجيبة مُدهشة تبدو كأزرار ذهبية وجواهر ولآلىء إلا إنها حلوى ! , وعندما حاولت أخذ الطبق معي إلى المنزل , تختفى الحلوى كلها مرةَ واحدة !
ويستحيل الطبق بقدرةِ قادر طبقاً خاوياً , وكلما وضعته في قلب الشجرة , عادت إليه حلواه كما كانت بكامل غرائبيتها , أما إذا حاولت اصطحابه برفقتي اختفت الحلوى و كأنها لم تَكُن !
استمر الحال هكذا ساعات طويلة , لم أكن أعرف ماذا أفعل ؟ في تلك الحالة لن يُصدقني الناس , ولن أنجح في اثبات براءة رفيقيّ
شعرت بضيق في صدري , وحيرة في عقلي , تألمت وبَكيت , وأصبح لنَحيبي صوت كصوت أمي عند ولادتها لأخي الأصغر , وصلت لأقصى درجات اليأس , وعندما رفعت رأسي إلى الطبق , وجدت فيه ورقةَ صغيرة , بها رسالة تقول :
قبل أن تأكلني .. اعطيني أسنانك !
فتحت عيني في دهشة بالغة , لم أفهم ماذا تعني تلك الرسالة ؟
وكيف يعطي أحدهم أسنانه لطبق حتى وإن كان طبق طائر ؟!
بعد أن قرأت الرسالة , وطبقتها , ظهرت الحلوى وظهر معها ورقة صغيرة تقول :
عندما تأكلني .. تسقط أسنانك , وعندما تسقط أسنانك .. تراني !
فوراً سارعت إلى قضم أول قطعة من الحلوى , وعندها سقطت سنتي الأولى في الطبق من تلقاء نفسها , شعرت بالهلع والدهشة , لم أشعر بأي ألم , لكنها سَقطت ولا أعلم متى ستعود ؟
عندئذ فهمت اللعبة , تلك الشبيهة بغُميضة القمر إلا انها لعبة جدية , فإذا أردت أن تظهر ليّ الحلوى , ينبغي أن أخسر عدداً من أسناني , لأنه بعدد الأسنان المُتساقطة , ستكون عدد الحلوى الظاهرة في الطبق , والتي لن تصبح مخفية لأى أحد , وحينها فقط سأستطيع حمل الطبق الطائر المملوء بالحلوى العجائبية , والعودة به إلى أورشَليم كي يراه الناس وليتبرأ صديقيّ الحميمين
وبدأت اللعبة بسِنَة واحدة , وانتهت بالكثير والكثير من أسناني ,وعدت إلى شارعنا وأنا أقبض على طبق الحلوى الطائر , والتف حولي الناس ليشهدوا على براءة ابراهام و حنا ولأُتَرجم حُبي لهما بما تَبقى من أسناني .
حوار مع مدربة الحياة التونسيّة أ. ريم الخميري
الكوتش التونسية ريم خميري : الأمل أكسيجين الحياة معرفة الذات طريق للسعادة الحقيقية الإنسان…