‫الرئيسية‬ مع الناس أصنع ذاتك كما تريد ” التداعي الحر والخبرة العميقة “/بقلم:المستشار آل حجاب

” التداعي الحر والخبرة العميقة “/بقلم:المستشار آل حجاب

” لماذا ينبغي علي أن أقلق بشأن الموت ، هذا لن يحدث خلال حياتي .”
” أنا لا أخاف الموت ولكني أخاف الطريق الموصل إليه ”  ؟
سألت الحكيم : عن ما وراء هاتين العبارتين المتباينتين معنى ولفظاً رغم اشتراكهما في فكرة واحدة هي (الموت) 
فقال : الأُولى نُقلت عن عالِم الفيزياء الأمريكي (ريموند سيمولين ). وفي ثناياها فكرةٌ عميقة جدا ، تعبر عن هروب يمكن أن نسميه هروبا احترافيا..!!
والعبارة الثانية اشتُهرت عن أحد الشعراء أيضا وفيها ما فيها من الاستسلام لمقدمات خبرة رهبة الغياب .. !!
وراء التعبيرين خبرة عميقة يمكن أن نسميها (رهبة الغياب) لكن الأول هرب باحترافية والآخر وقع في الطريق .. !!
 قلت : كلٌ منا كان غائبا ثم حضر، وفي غيابنا الأول ليس لدينا انتباه بماهية الغياب ذاتهِ ، وكذلك ماهية الفقد !!
قال : نعم ، هذه المزعجات الآنية في الحقيقة نشأت من خاصية استشعارنا الذاتي الذي وُهب لنا !
قلت : هل هذا الشعور بمأساة الغياب، وهذه الحالة من الرهبة ، قدرٌ ملازم لنا نحن البشر ..
قال : هما صدىً لحالةٍ دنيويةٍ منشأُها في العمق الإنساني من فكرة الموت الكبرى، وهي الفكرة الدالة على الغياب الحتمي عن وجودنا الآني بعد حين ..!!
 ولتبديد طاقتها ليس لنا إلا أن نغوص في ماهيتها من خلال التحليل العميق..! ففي حياة كل منا محطاتُ فرحٍ ومثلُها محطاتُ حزنٍ وألم ، يتم اجتياز هذه المحطات اجتيازاً نسبيا بحسب القانون الحياتي المتحرك ، الذي لايدع أحداً يقف على مدرَجِ محطةٍ واحدة باستمرار …!! 
قلت : لكن يبقى في العمق الوجداني ترسباتٍ هي بقايا من تلك المحطات العابرة، تحركُها مثيراتٌ عارضة على طريقة : ” أعدنَ لي الشوقَ القديم ولم أكن سلوتُ ولكن زدنَ جمراً على جمر ..!! “
فقال : قد يكون لبعض المحطات وقعٌ أكثر حضوراً واحتلالاً لقاع الوجدان العميق ( اللاستشعار )..!! ويمكن أن نسمي هذا الحاضر المتشبث بجدار الذاكرة (الخبرة العميقة ).
ومن المتعارف عليه أن حياة الفرد السلوكية والمعرفية تتكون من مجموعة خبرات تتآلف فتنتج خبرةً أخرى تندمج مع ذرات خبرة أخرى مستقبلية… وهكذا يتوالى البناء الخبراتي للكيان السيكولوجي (النفسي ) للشخص .
والخبرة العميقة إذا كانت مؤلمة قد تصبح من النوع المتسلط فتظهر بين الفينة والأخرى ، لتذكي الصبابة وتساهم في تفجيرعواطف شاعرٍ مبدع أثقلته أوزار الألم الممض … !!
وكذلك تفعل فعلها أيضاً على ( القاص) حيث تُشاهَدُ على مسار سرده القصصي ومن خلال عتابات وجدانه ، وربما تسللتْ كخيط رفيع ضمن خطوط الانتاج في مصنع (الروائي ) دون انتباه منه وتيقظ ! وتظهر في تحويل سلوكي عند الشخص أياً كان مكانُه وجنسُه وتخصصُه وعمره .. ، تفعل هذا مع كل أحد ، فتظهر في التعبيرات الإبداعية واللفظية التعبيرية ( اليسيرة ) بحيث يتم التعبير عنها تعبيراً تحويلياً ( رمز) على شكل سلوك غير مفهوم ، أو تعبيراً مباشراً..!
قلت : هذه ( الخبرة العميقة ) هي صيد سمينٌ وثمين في آن ، وإن كانت صعبةَ المنال إلا أن الناقدَ البصير المتخصص يجد في رصدها بغيتَهُ ، ويتلذذ المحللُ النفسي بمطاردتِها في محميةِ المبدع كما يجدها في سلوك العميل ، حيث تغيبُ وراء آكام النص ، ثم تظهر فجأة في ميدان تنكشف فيه مفاتنها للقانص المحترف ..
قال : نعم وهنا أمثلة تاريخية ومعاصرة للبيان فقط  ، تعمدتُ عرضها كي أكشفَ لك المشترك بينها
بما أشرت إليه فيما يتعلق بـ (الخبرة العميقة).
يتمثل هذا في أبعاد الظهور الصارخ لفكرة أسميها (رهبة الغياب) في بعض النصوص التي قاربتُها من وجهة نظر تحليلية نفسية..
إذ كيف نفسر بكائية زين العابدين -علي بن الحسين -:
ليس الغريب غريب الأهل والوطن \\ إن الغريبَ غريب اللحد والكفن..
ومرثية مالك بن الريب :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة \\ بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا ..
إلى قوله :
تذكرت من يبكي علي فلم أجد \\ سوى السيف والرمح الرديني باكيا.
إلى أن قال :
غداة غد يا لهف نفسي على غد \\ إذا أدلجوا عني وخلفت ثاويا . ؟
وما سرُ دفَعات الألم واستنهاض المعاناة حد الإغراق ، كما في سيرة الطنطاوي الذاتية (الذكريات) ، وفي ذات السياق ما بثه ( القصيبي ) بوحاً سرديا وشعرياً في الكثير من محاور انتاجه الأدبي شعرا ورواية .. وشاهد ذلك ما انتجته قريحتُه الوقادة وصفا في قصيدته (حديقة الغروب) ..؟
هذه نماذج تَمَثلَ فيها التعبيرُ المباشر وأحيانا غير المباشر عن (خبرة عميقة ) هي ( رهبة الغياب ) التي يحركها وقوداً فكرة الموت الكبرى .. !!
وبالتأكيد لكل منهم تجربة خاصة نتج عنها التصاق هذه الخبرة العميقة به وبإنتاجه الفكري …!
فلكلٍ أدواتُه وطرقُه الذاتية في ( التنفيس الإنفعالي ) ، وبمراقبته عن بعد نكتشف أنه حينما تضغط عليه أثقالُ هذه الخبرة يهرب في نفس النص هروبا يستعرض من خلاله بطولاته وصولاته وجولاته ويظهر معتدا بذاتيته .. ! وهذا هو (التحويل) !!
” فقد كان قبل اليوم صعبا قياديا “(مالك بن الريب).
“إن ساءلوك فقولي : لم أبع قلمي \\ ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري ” (القصيبي)..
لكن هذا المبدع ما إن يسترخي حتى تعود له فكرة الموت الكبرى لتؤجج عنده رهبة الغياب فيمرر هذه المأساة لمتابعِهِ مباشرة ..!! لذلك نلاحظ نصه يترنح بين انتقال متيقظ وغير متيقظ ، وهي ميزةٌ تعتبر وقفا على المبدع أيا كان مشربُه ومنهلُه .. !! لكن غيره قد تكون هذه (الخبرة العميقة ) تظهر على شكل حيلة دفاعية ، بلا وعي يتحول بها الموقف الأصلي والفكرة الضاغطة إلى فكرة أو موضوع آخر رمزي ليس له علاقة بالموقف الأصلي ، وهو هنا بحاجة إلى استبصار يوجه له عن طريق مساند نفسي وفي هذا دليل على أن الإنسان لابد له من أن يعبر ، ومن الحتمي أن يكون تعبيره تواصلاً إما سلباً أو إيجابا ولذلك قيل : الإنسانُ ليس سلوكه .. !!
لنعد للبمدع فهو لم يكن يعبث ، بل كانت ملكاتُهُ تتداعى للحفاظ على كيانه الوجداني بهذه التعبيرات المباشرة وغير المباشرة ..
وقريب من مما سبق أذهلني كثيرا حد الدهشة مانشرته ( بي بي سي ) العربية بتاريخ 2 يونيو 2013 عن ما قام به مجموعة تصل إلى مئات من الشباب في مدينة ( براغ ) حيث قاموا بمسيرة تنكرية وهم في لباس وهيئة أموات عائدين من رحلة الموت ، هذه المسيرة بعنوان الكائنات العائدة من الموت وأصبح يُعمل بمثل هذا السلوك في بعض مدن العالم .. !!
وهنا استفهامات : ما لذي يمكن أن نستنتجه من وراء هذا الفعل التعبيري اللا مألوف؟
 أهي مجرد تسلية ؟
مهما يكن من استنتاج عبثي مجنح في الخيال أو مغرق في الواقعية ، إلا أني أراه نقلة نوعية في التعبير الجمعي عن مواجهة رهبة الغياب بتجربة أسلوب الغمر ، وذلك بالتقمص والدخول في عالم الفكرة الكبرى المقلقة لكل الأحياء ..!!
المستشار
سعد آل حجاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين − 9 =

‫شاهد أيضًا‬

حوار مع مدربة الحياة التونسيّة أ. ريم الخميري

الكوتش التونسية ريم خميري : الأمل أكسيجين الحياة معرفة الذات طريق للسعادة الحقيقية الإنسان…