‫الرئيسية‬ عبق الياسمين رسالة إلى بنغازي: خيرية فتحي عبد الجليل
عبق الياسمين - همسات - 30 أكتوبر، 2017

رسالة إلى بنغازي: خيرية فتحي عبد الجليل

كم أتمنى أن أعود إلى مدرجات  كليتي وأجدها  كما هي وأجلس هناك أتحسس مقعدي الدراسي لأعرف مقدار  الحنين والشوق ، هي و  أنتِ في نفس المكان  وبنفس حلتك القديمة آمنة مطمئنة يا بنغازي ، كم أتمنى  أن تشاكسني نوافذك وينزلق رجلي في شارع جمال عبد الناصر وأنا أركض لألحق بحافلة الطالبات ..وتتبعثر كراريسي وأوراقي .. أتأخر عن  موعد محاضرة الاحتمالات  فيطردني الدكتور الهندي   كم أتمنى أن    أعود إليك لتقرأ الشوارع  قصيدة خطواتي المراهقة المتسكعة على مسامعك أيتها الأبية الشامخة .. كم أتمنى أن أعود إليك فقط لتسرقيني من جديد وأجلس  مرة أخرى في شرفة من شرفات بيوتك أحتسي الشاي وأختلس النظر إلى وجهكِ الطيب  .. أحاول فك رموز احتمالات الشك واليقين وفروق العمر الهارب  .

بنغازي .تشتد بي الكتابة هذا المساء  ويشتد بي الحنين إلى مدينة متجذرة في العروق كما الدماء ، متشبثة بالقلب كما النبض  .. إلى مدينة تندس بين الضلوع  وتتمركز بين النبض والنبض وترف لها العين ويرتمي في أحضانك العابر و الغريب.

إليك بنغازي تشتد بي الكتابة هذا المساء الحزين ، و آه كم يذهلني صبرك الجميل أيتها الفاتنة  ، تردين على صواريخهم على ثقل أحذيتهم ورائحة بارودهم المختلطة بالخيانة والدسائس ودخان الفرنجة الرخيص  تردينهم برفق وتمسحين على رؤوسهم ، تغتالين الحزن في قلوب الشرفاء وتبشرين  بوطن ينهض من جراحه ثم تنسلين بهدوء وتتمددين بسكينة صامدة في وجه التاريخ ، تحلمين بالهدوء وبالنوم في حضن قمر وبغطاء ناعم مطرز  بالنجوم  وأحلم بعودتي إليك طالبة تتبعثر كراريسي في شوارعكِ من جديد .

شيء منكِ يسكنني منذ طفولتي .. كلما تأملتُ أسمكِ .. شعرتُ بلذة غامضة لا أدري ما هو مصدرها …شيء غريب يصعب تحديده .. حنين قاتل .. وشوق مستمر لشيء مجهول …  تتراءى لي شوارعك الضيقة … أزقتكِ .. مسالككِ الخلفية .. أسواقكِ العتيقة .. كم أتمنى أن إقراءكِ بنغازي أتنفسكِ أدنو منكِ .. أتلمس كل شيء فيكِ .. أحتضن تربتكِ وأغفو بين يديكِ وأهيئ نفسي لكِ  .. أتوه ضائعة أنشد شيئاً ما صعب المنال تحت أقواس ” سوق الظلام ” ومصابيحه العتيقة ..وبضائعه المختلفة ..التسكع في شوارعكِ وأسواقكِ هي أحدى حماقاتي المحببة إلى نفسي وأنا طالبة أدرس ” الكمبيوتر ” في جامعة قاريونس … بنغازي ميدان البلدية وميدان سوق الحشيش و ميدان الفندق البلدي وميدان الشجرة، بنغازي قصر المنار الذي تحدث من شرفته  السيد الزعيم الأمير محمد إدريس السنوسي معلنا ميلاد واستقلال دولة الأمة الليبية الفتية فى 24 ديسمبر عام 1951

أكتب إليكِ الآن  أنيني  … وأفشي إليكِ حنيني وأتلو أمامكِ رسائل عشقي القديمة وأسكب تاريخ حبي أمام أزقتكِ الخلفية .. وحاراتك في الصابري والسلماني والكيش.. سوق الجريد يحفظ كل أسرار القلب .. وحماقات الطفولة الأولى وعثرات الشباب … يصعب عليَّ تحديد ملامح حبكِ بنغازي .. وانكساري أمامكِ وأمام عظمتكِ ..

أيتها الشوارع التي تحمل صور أغلى الشهداء .. أيتها الأزقة التي لم تخذلنا أيام الثورة العصيبة .. أيتها النوافذ والشرفات التي لم تنكس رايات الفرح ونحن نزف إليها أخبار الجبهات ونكتب على زجاجها أسماء أحبتنا الشهداء .. لكنها الآن تلبس سوادها المظلم طلاء يغطي جدرانها  وتنكس راياتها حداداً طويلاً على الوطن … تُري كم يلزمك من التضحيات والأرواح والشهداء لترجع لنا وطناً نقياً .. بلا شيوخ ولا أخوان .. بلا أجندات .. وطناً حنوناً كما كنا  نعرفه ولا نجهل تضاريسه أو مساحته .. أو جغرافيته الغالية .. أو مناخه الذي تغير كثيراً كثيراً عنا  وأصبحت شمسه بعيدة المنال وظله يستعص على متناول أجسادنا المرهقة .. أما ليله فقد اُغتيل قمره غدراً  في كبد السماء .. نهار لا ضمانة لغده .. وزمن لا أمل في مستقبله .. ووطن مسجي جريح يئن من شدة ألم لا يطاق اسمه الخذلان .. الركض فيك يا وطني لا يؤدي إلا إلى مفترق نقطة البداية ..حيث اللاشيء والتيه والجنون .. حيث لا نهضة .. لا عمار .. لا بناء  .. لا تقدم .. حيث أبناء الوطن ينطفئون .. غدراً بيد مجهول همجي ..قاتل من داخل وطنهم  يشاركهم قوت يومهم .. ثم يحتفل ليلاً ويشرب كأسه نخب سذاجتهم وجهلهم وغفلتهم.. نخب ابتلاع موتهم على جرعات طويلة الأمد .. نخب تأخر ربيعهم .. الذي صار هباء ورماداً وتساقطتْ أوراقه قبل أن تُزهر أشجاره .. لكن من يستطيع تحمل أنينك أيها الوطن ؟ّ!!

خيرية فتحي عبد الجليل ………… البيضاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنا عشر − واحد =

‫شاهد أيضًا‬

حوار مع مدربة الحياة التونسيّة أ. ريم الخميري

الكوتش التونسية ريم خميري : الأمل أكسيجين الحياة معرفة الذات طريق للسعادة الحقيقية الإنسان…